عين مستقبلية
إن عين الأوريي أغنى من أعيننا، وأين نضع كل تاريخه التشكيلي الذي بات عريقا؟ كما أن أذنه أرهف من آذاننا، والتجريد الموسيقي بلغ عنده أوجا مرموقا. وليست المفاضلة طبعا بيولوجية، ولكن الأوربي تمرس بالعمل الإنساني المبدع الخلاق أبعد مما فعلنا بكثير، وذلك لأسباب تعود إلى تكدس الإنتاج، والمنهجية ، والمناخ الحضاري، وتراكم المعارف، والخروج من حلقة الإقطاعية والدخول في عصر التصنيع ... ونحن، ربما تفلتنا اقتصاديا من إسار الإقطاعية، إلى هذا الحد الكبير أو ذاك، ولكن تقاليدها مازالت فاعلة فينا، وما برحنا سوقا للاستهلاك ، فلم نكتسب من البورجوازية حسناتها، ولا حصلنا من الاشتراكية مزاياها، إن عين الأوربي- إذا ساغ التعبير- عين إنسانية متطورة، أفادت من التراث الثقافي الحافل الذي صنعه الإنسان غبر تاريخه، ووظفت هذا الماضي في خدمة الحاضر والمستقبل، وأعيننا يغشاها الانشداد إلى الماضي، أكثر مما هي مسكونة بمطامح الحاضر وتصاميم المستقبل.
لا صوفية ولا ذوبان
هناك جاذبية لاقطة تتخلل عملية التذوق الفني، كأننا عثرنا على شيء نبحث عنه، أو يجسد النموذج المرتجى للجمال الذي نتوق إليه، على نحو ما، إبان عصر معين. ولهذا فالأثر الفني يعاد اكتشافه على الدوام. ورب أعمال أدبية، أو تشكيلية، أو موسيقية، لم يدرك معاصروها ما انطوت عليه من أبعاد، ثم نبشها اللاحقون ووجدوا فيها ضالتهم المنشودة، والأثر الفني الذي يتيح للنقد - مع كل مرحلة تاريخية - تفسيرا لخباياه، زاوية جديدة للتعامل معه، هو الأثر الأصيل، المشحون بمحنة الإنسان وهمومه التي لا تبلى وشواغله التي لا يمل من إعادة طرحها. وهذه الجاذبية، المنبعثة من الأثر الفني، تسربل المشاهد بحالة وجدانية عجيبة، إذ تتفتح في دخيلته مشاعر تلهب حواسه. ولا عجب أن تجتاحه القشعريرة، وأن يحس بهزة عاطفية، وبجيشان وخفقان، وبحركية عاصفة، وبحاجة ماسة إلى الوحدة والانعزال. وليس، في هذا كله، صوفية وذوبان، لأنهما تعنيان الإمحاء، في حين أن الأثر الفني تتأمله وتفكر به وتسعى جاهدا لاكتناه موضوعه والتغلغل في مادته. وبمقدار طاقته في التأثير على إحساساتك، يكمن نفاذه إلى وجدانك وإلى حياتك الروحية.
إن التواصل بين الذات والموضوع عملية فردية، بخلاف الفنون الشعبية التي تقوم على الفرح الجماعي. لا أخال، على سبيل المثال، أن أفلام انغمار برغمان، السويدي الجليل، يمكن للمرء أن يشاهدها برفقة الآخرين، كما لو أنها أعمال ترفيهية، لأن طبيعتها الاستبطانية، التأملية، التحليلية، تفرض عليك أن تكون وحيدا ، لتتذوق هذا العالم السحري من المتعة الجمالية وهذا العرض الآسر لدراما الحياة. و هذا التفاعل بين الذات والموضوع يختلف من أثر إلى آخر، إذ الموضوع الفني يملي على المتلقي فروضا أو طقوسا أو تقاليد مرعية، أو سمها ما شئت. وهو تفاعل حي ، يتميز بالدينامية والجدلية بين الذات والموضوع. فالذات وحدها ليست خلاقة، كما أن الذات لا يقتصر عملها على كونها مجرد مرآة عاكسة للموضوع. فالتصور الأول مثالي ، أحادي الجانب. والتصور الثاني ضرب من المادية المبتذلة التي شاعت في القرن الثامن عشر. وكلا التصورين لا يأخذ بالحسبان الجدل العميق الذي يحتدم بين المتخاطبين، وهما الذات والموضوع. إن التذوق الفني يؤدي إلى اندماج بين الأثر الذي يتمتع بوجود موضوعي مستقل، وبين الإنسان المكتشف الذي يحمل إلى الموضوع عصارة ما حصله من ثقافة، ليلج في شقوق العمل ، ولينتقل من التبضر الخارجي إلى الحلول في حركته الداخلية. وفي الأمر اجتهاد واستدعاء للملكات، وليس هو بحال مجرد رد فعل بسيط ، كهذا الذي عناه بافلوف في الانعكاس الشرطي. وكما في العلم كذلك في الفن. إن إدراك معادلة في الرياضيات، أو نظرية في الفيزياء، هي في الصميم اكتشاف أو إعادة اكتشاف لها. ولكن المعادلة أو النظرية تعول على الإدراك العقلي، وعلى المحاكمة المنطقية. ثم إن الموضوع العلمي يتوسل البرهان والإيضاح والإثبات، ويقود إلى حقيقة معينة. في حين أن الأثر الفني لا تقود خطاه المنفعة العاجلة، ويقتضي منا، بالإضافة إلى المحاكمة، شأنا خاصا به هو التذوق الجمالي، وعماده الحس والحدس والعواطف. إنه اللقاء الحميم بين التأمل والإدراك، بين الإحساس والمعرنة، بين الشعر والعلم، بين الحلم والواقع. وفي هذا العناق يتحقق ما يمكن أن ندعوه الإنسان الكلي ، فينطوي الفرد في الجماعة وتذوب الجماعة في الفرد.
الذاتي والموضوعي
إن في التذوق الفني هامشا كبيرا من الذاتية، ولكن ينبغي عدم تضخيم هذا الدور. وذلك أننا عندما نشهد للوحة تشكيلية بأنها رائعة، فشهادتنا تحمل عنصري الذاتية والموضوعية معا. هناك تواطؤ وتناغم وتلاق بين نوع ثقافتي الفنية ومستواها وغناها من جهة، وبين اللوحة المعروضة من جهة أخرى. وموضوعيتي، أو ذاتيتي العارفة، تتأكد كلما ازددت ثراء في الثقافة الفنية التي تتم لي تحصيلها. وذاتيتي الخاصة، بالمعنى السلبي، تبرز كلما استبان لي أن هذه الثقافة المحصلة تشكو من نواقص حمة، بحيث أغلب أهوائي على العلم. فالذوق، بمعناه العام، كالجمال بمعناه المطلق، يقودنا إلى التعميم وإصدار الأحكام. ولا ذوق من غير ثقافة عميقة، ومراس طويل، واستعداد ذاتي كامن في الفطرة. أما الذوق الشخصي، بمعناه الخاص والفردي، فلا تعويل عليه ههنا. فالأول ابن التربية والتحصيل والحساسية الفنية، والثاني ابن النوازع والأهواء والآراء الشائعة المتعسفة.
إن الذوق الفني، في قراره، وعلى نحو ما، علم، وبواسطته يخرج الإنسان من الفردية الضيقة إلى الرحابة الكلية. والدليل أن هذه اللوحة التي أثارتك وخاطبتك وحركت كوامنك، إذا ما وقف حيالها إنسان أمي، أو آخر قليل المعرفة، أو ثالث متعليم ولكن انتفت عنده الثقافة الفنية، فإن هؤلاء جميعا لن تترك في نفوسهم أثرا لا كبيرا ولا صغيرا، وقد تعجبهم، ربما، هفواتها الفنية لا حسناتها. إن الشهادة لأثر فني تتطلب معرفة بتقنياته وتاريخه، وتقتضي من المشاهد أو السامع معايشة لهذا النوع من الإنتاج الفني وتمرسا حضاريا في نطاق المجتمع الذي أعطى هذه الآثار الراقية. ولا عجب، في هذا المجال، أن تترك الثقافة الغربية، من خلال إبداعاتها الوفيرة، تأثيرها الخطير علينا، وأن يتلهف مثقفونا إلى أن يردوا منابت هذه الثقافة ويرتووا من ينابيعها الأصلية، وذلك لأنها استحالت حضارة كونية، ولأن تحصيلها من الخارج لا يوازي البتة الانفعال بها في مواطنها، ومصاحبة الشروط والظروف والبيئات التي رافقت ولادتها، وقد بلورتها على الطبيعة نمط عيش وتفكير وأسلوبا في الأخلاق وردود الفعل والإبداع.
تربية الذوق
هل يفهم، مما تقدم، أن الذوق الفني علم بحت، وأحكام صارمة، وكبت للعاطفة الوجدانية، ورمي للذات في زاوية العتمة؟ هذا التفسير يتوارد لخاطر من يجعل الموضوعية على تضاد وتصادم مع الذاتية. في حين أن الموضوعية تهدف إلى الإقلاع عن النظرة الغيبية، أو الصوفية، أو حتى الرومنطيقية المائعة، وذلك عند تدارس الأثر الفني. وهي نظرة فيها سباحة، وفيها غرق، وتتلبس بالشرود والضياع والذوبان، في حين أن العمل الفني يملي علينا، لنغوص في فرديته وفرادته وكليته، انتباها وتركيزا، ونبشا لمخزوننا الثقافي، واستعادة لذاكزتنا المطوية، وتوسلا بذاتيتنا المرهفة التي صقلتها الممارسة وجلاها الزمن. والأثر الفني نقترب منه ونصل ، نسبيا ، إلى إعادة اكتشافه، بمقدار ما نتسلح بهذه الموضوعية وبالأدوات المعرفية. ولأن من طبيعة هذه الأدوات المعرفية أن تغتني، تبعا للتطور العلمي والاجتماعي والثقافي، فلا مندوحة من أن تتكيف مقاربة الأثر الفني بهذه التغييرات الطارئة. لذا نجد أن العمل الفني موضوع إعادة اكتشاف غير نهائية، وليس هو بالأمر المبتوت على نحو حاسم. والإنسان من أشيائه، وهو في تطور متلاحق، فكيف تظل آثاره جامدة ولا تزداد خصبا وغنى؟
إن شر ما يبتلى به الذوق الفني أن يرتمي في نزعة مثالية، رومنطيقية، بالية، شأن الرومنطيقيين الألمان الذين نقموا على القطار لأنه شوه بدخانه الطبيعة وأزعج بصوته صمتها الخالد: أصحاب هذه النزعة، المحلقة في سماء المطلقات، يرون في البشر قطعانا سائبة تركض وراء إشباع منازعها المادية ولا تفقه شيئا من مغزى الارتواء الروحي. وهم ينادون أن مثلهم العليا لا تزدهر إلا في أجواء الحرية. ولكن هؤلاء السادة ينسون ، أو يتناسون، أن الحرية تعني أيضا، وخصوصا ، الحرية الاجتماعية التي تنقل الناس- الذين يرونهم قطيعا من العبيد- من حالة العبودية الراسفين في أصفادها إلى حالة البشر القابلين للتطور والتعلم، وللتذوق في نهاية المطاف البعيد. إن الذوق الفني عملية تربوية تحتاج إلى زمن طويل، وذلك لمن حرمتهم الحياة الظالمة من مباهجها وروائعها.
للفن قوانينه
أشرنا، في مطلع هذه المقالة، إلى طبقية الفن، فلقد راكمت الطبقات فنونها المختلفة، خلال التاريخ، وورثنا نحن هذا الميراث الغالي، ونجدنا حريصين على المحافظة عليه ورعايته واستنقاذه من يد الأذية أو غائلة العدم. وليست بعيدة تلك الحملة العالمية التي قامت لانتشال الآثار الفرعونية وسحبها إلى مكان مرتفع، لئلا تغرقها مياه النيل مع عملية بناء السد العالي في مصر. وهناك، على الدوام، حملات مماثلة هنا وهناك من كرتنا الأرضية، لكيلا يفقد التاريخ الإنساني صفحاته الرائعات. فلم هذا الحرص الذي يكقف أموالا طائلة؟ مع العلم أن هذه الآثار أنتجتها عهود قديمة، وهي تأثرت بعقائد ونظم وطرز عيش ومصالح لم تعد مألوفة أو مستساغة في يومنا هذا عند الكثيرين. والآثار الوثنية أو الكنسية أو الدينية أماط اللثام عن جمالاتها دارسون ربما كانوا، في غالبيتهم، أناسا علمانيين. فكيف يحدث هذا، وذوقنا الفني المعاصر غير الأذواق التي أنتجت هذه الأعمال السالفة التي نطلق عليها صفة الروائع؟
إن ذوقنا الفني يختزن الأذواق الماضية ويفيد منها وينفعل بها، وقد يحتذيها في هذه الناحية أو تلك، أو يستوحي منها، وذلك لأن هذه الفنون التي ازدهرت، في ظروف تاريخية، وبواسطة طبقات اجتماعية، اكتسبت، شأن الأدب والموسيقى، نوعا من الاستقلالية النسبية ومن القوانين الخاصة بها. إن الآداب والفنون تنطلق، في الأصل، من مصالح طبقية وحاجات اجتماعية معينة، ولكنها تتطور وفق " ميكانيزم " لاصق بها، وترتفع في إبداعاتها الكبرى من الخاص إلى العام، أي إلى الإنسان بكليته، ومن هنا سرها وبقاؤها وديمومتها وخلودها. أقرأ يوريبيدس أو شكسبير، أشاهد إيزيس أو تماثيل مختار، أسمع بيتهوفن أو غلنكا، فأعثر على الإنسان الذي تحرر بالفن، بالعمل الباهر الذي يتجدد ولا نفاد لطاقاته الكامنة. ولهذا لا مفاضلة بين الفنون، ولا سبيل إلى ازدراء فن، كلها لحظات إنسانية. وذوقنا الفني قد يميل إلى هذا النوع أو ذلك بحسب التكوين الشخصي، والحساسية الخاصة، ومستوى التحصيل، ونوعية البيئة، والظرف التاريخي.
وبعد، أي هبة خارقة يمدنا بها ذلك الساحر الإنساني الذي يدعى الفن؟!
--------------------------------------------------------------------------------
عن مجلة العربي ـ وزارة الإعلام ـ دولة الكويت
مجلة تعنى بالفن التشكيلي العربي والعالمي ـ جميع الحقوق محفوظة للفنان التشكيلي حميد خزعل
27/7/2003
Bookmarks